English عربي



احاد الصوم الكبير
الاحد الاول
الاحد الثاني
  احد التجربة
  اليوم الاول
  اليوم الثاني
  اليوم الثالث
  اليوم الرابع
  اليوم الخامس
  اليوم السادس
الاحد الثالث
الاحد الرابع
الاحد الخامس
الاحد السادس


  كل عام وانتم بخير

بمناسبة بدء الصوم الكبير 
 

الاحد الثاني احد التجربة

 

 

عشية باكر قراءات القداس
مز 51 : 1 ، 9 مز 57 : 1 رو 14 : 19 – 15 : 7 يع 2 : 1 - 13 أع 23 : 1 - 11 مز 27 : 8 - 9
مر 1 : 12 - 15 لو 4 : 1 - 13       مت 4 : 1 - 11

الانجيل

1 ثم اصعد يسوع الى البرية من الروح ليجرب من ابليس
2 فبعدما صام اربعين نهارا و اربعين ليلة جاع اخيرا
3 فتقدم اليه المجرب و قال له ان كنت ابن الله فقل ان تصير هذه الحجارة خبزا
4 فاجاب و قال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله
5 ثم اخذه ابليس الى المدينة المقدسة و اوقفه على جناح الهيكل
6 و قال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك الى اسفل لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى اياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك
7 قال له يسوع مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك
8 ثم اخذه ايضا ابليس الى جبل عال جدا و اراه جميع ممالك العالم و مجدها
9 و قال له اعطيك هذه جميعها ان خررت و سجدت لي
10 حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان لانه مكتوب للرب الهك تسجد و اياه وحده تعبد
11 ثم تركه ابليس و اذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه

+ + +



أحــــــد التجـــــربـــــة :

" ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من أبليس ... " ( مت 4 : 1 )

" ثم " أى عقب عماد مخلصنا الرب يسوع ، " أصعد يسوع " ، هناك عدة عوامل اشتركت فى اصعاد يسوع إلى البرية لم تذكر ،

وأول هذه العوامل هى مسرة الله الآب فى أن ينزل ابنه إلى العالم متجسدا ليتألم بكل صنوف الآلام والتجارب ليخلص العالم ، إذ ترنمت الملائكة ليلة ميلاد أبنه قائلة : " وبالناس المسرة " ، والعامل الثانى هو مسرة الأبن نفسه كقول الرسول : " يسوع الذى من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزى " ( عب 12 : 2 ) .

والعامل الثالث هو أن يكون مجربا مثلنا كما يقول الرسول : " من ثم كان ينبغى أن يشبه أخوته فى كل شىء لكى يكون رحيما ورئيس كهنة أمينا فى ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب ، لأنه فيما هو قد تألم يقدر أن يعين المجربين " ( عب 2 : 17 ، 18 ) .

كل هذه العوامل دفعت الرب يسوع لأن يصعد إلى البرية بقيادة الروح القدس لمحاربة الشيطان وكسر شوكته وتخليص البشر الذين سباهم يوم كسر آدم وغلبه فى الجنة ، أما المقصود بالروح هنا فهو الروح القدس .

" فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا " ( مت 4 : 2 ) .

صام مخلصنا كما صام موسى وإيليا ، ولكنه لم يكن صوما لكباح شهوة لأنه " أخذ كل ما لنا ما عدا الخطية " – " قدوس بلا شر انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات " ، ليس بحاجة إلى شفافية تساعده على الأتصال بالله لأنه هو والآب واحد وليس فيه ما يفصل بينه وبين أبيه ، لأنه فى كل حين يعمل إرادة أبيه .

ولكنه صام لأنه " يجب أن يكمل كل بر " ... صام مخلصنا وبصومه أكمل كل بر لأنه بصومه هذا فى البرية فى حربه مع الشيطان قد أكمل ما عجز البشر عن صوم نظيره ، إذ صام الصوم الذى أختاره الله كما قال قديما بلسان أشعياء النبى : " أليس هذا صوما أختاره .... " أش 58 : 6

صام المسيح ليجرب من أبليس فكسره فى البرية ودحره دحورا كمقدمة لكسرته النهائية على الصليب : " ومحى الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضدا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرا إياه بالصليب إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ظافرا بهم فيه " ( كو 2 : 15 ) .

يســــــوع يجــــرب :

ومع أن الرب يسوع كان طاهرا قدوسا ولم تكن له أفكار الخطية لتقوم فى قلبه ، فقد جربه الشيطان .

ولكن جاءه أبليس من الخارج لأنه لم يجد فيه شيئا من الداخل كقوله له المجد " رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء " ( يو 14 : 30 ) . فعبرت تجارب أبليس على سطح نفسه الطاهرة ، ولكنها كانت نجارب حقيقية ، لأنه جاع مثلنا ، وبرغم أنه قد أحس بشهية الأكل إلا أنه أخضع الشهية لقوة إرادته المقدسة .

وكما أن صعود المسيح إلى البرية كان جزءا رئيسيا من عمله العظيم الذى جاء لأجله ، فإن تجربة المسيح كانت جزءا من تواضعه وآلامه ....

" فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا " مت 4 : 3

لما رأى الشيطان أن هجماته السرية مدة أربعين يوما قد صدها الرب يسوع بقوته الفائقة دون أن يلين أمامها أو يميل معها إذ هو صخر الدهور الأبدى ، راح يجمع كل أدوات حربه : " شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة " ( 1 يو 2 : 16 ) . تلك الأسلحة التى هاجم بها آدم الأول فى الجنة وانتصر بها عليه فكبله بقيود الأثم مستعبدا إياه وذريته معه ، وهى الأسلحة التى لا يزال يحارب بها أولاد آدم إلى يومنا هذا .

السلاح الأول الذى تقدم به إلى ربنا يسوع بصفته آدم الثانى كان شهوة الجسد " إن كنت أبن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا " هذا هو الطعم الذى دس فيه خطية الشك والأرتياب فى أمانة الله وصدق مواعيده وعنايته ، خطية عدم انتظار مشورة الله ، وعدم الأتكال عليه ، خطية الأعتماد على الذات ، هذه الخطايا قد لفها الخبيث فى غلاف تكاد العين البشرية المجردة أن لا تراه ، هو الحرف " إن " وهو كلمة شك يريد بها زعزعة ثقة المسيح فى كونه أبن الله وتشكيكه فى صوت الآب الذى سمعه عند المعمودية يعلن : " هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت " .

رفض يسوع هذه المشورة المناقضة لقول الله الصريح : " ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الأنسان " ( تث 8 : 3 ) .

" ثم أخذه أبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل ، وقال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكى لا تصدم بحجر رجلك ، فقال له يسوع مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك " ( مت 4 : 5 – 7 ) .

كثرت آراء المفسرين فى كيف أخذ ابليس الرب يسوع ، ولكن إذا علمنا أن الشيطان روح ، والأرواح تحمل البشر وتخطفهم لا فرق بين أنبياء ومبشرين كما ورد فى سفر الملوك الثانى ( ص 2 : 16 ) أن بنى الأنبياء قالوا لأليشع تلميذ إيليا عن معلمه : " لئلا يكون قد حمله روح الرب " . وقال حزقيال النبى : " ثم حملنى روح .... فحملنى الروح وأخذنى " ( حز 3 : 12 ، 14 ) . وإذا قيل كيف الروح النجس يحمل المسيح القدوس ؟ نقول : أما سمح المسيح لليهود الأشرار الذين قال لهم يوما ما " أنتم من أب وهو أبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا " سمح لهم أن يأخذوه ويسوقوه ويدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة للمحاكمة ! فكما سمح لهؤلاء هكذا سمح للشيطان أن يأخذه أو يحمله لأكمال تجاربه التى انتصر فيها عليه وكسره وأنقذ البشر الذين أسرهم تحت عبوديته .

يلاحظ هنا أن الشيطان لما رأى الرب يسوع قد صده بآية من الكتاب راح هو الآخر يقدم غواية أخرى عن طريق الكتاب ، فقال : " مكتوب أنه يوصى ملائكته " متخذا من الكتاب الذى جعل لهداية الناس وسيلة للغواية والتضليل .

كما يلاحظ أيضا أن ابليس لم يكتف بأن يضع النص الكتابى فى غير موضعه ، بل راح يحذف ويهمل اهمالا خطيرا بعض النص الذى أورده من المزمور ( 91 : 11 ، 12 ) وهو : " لأنه يوصى ملائكته بك لكى يحفظوك فى كل طرقك " . أما الشيطان فحذف منه عبارة " فى كل طرقك " أى الطرق المميزة والمبينة من الله كقوله تعالى : " أعلمك أرشدك الطريق التى تسلكها " ( مز 32 : 8 ) " الطريق الصالح " ( أر 6 : 16 ) " طريق الحق " ( مز 119 : 30 ) .

رأى يسوع أعماق الشيطان فلم يشأ أن يجيبه إلى طلبه ويمتحن أمانة الله بدون داع ولا مسوغ ، لأنه مادام هناك طريق للنزول بسهولة ، فلماذا يطرح نفسه ويصنع معجزة ، والمعجزة لا تكون إلا عند العجز عن النزول ، كاليوم الذى أمسكه فيه أهل مدينته وأرادو أن يطرحوه من على الجبل ، فجاز بينهم وانطلق .

فلو فعل المسيح ما طلبه الشيطان ، لما كان عمله اظهارا لقوة إيمانه ، بل كان مظهرا من مظاهر التعدى على وصية الله القائلة : " لا تجرب الرب إلهك " .

إن يسوع لم يرد أن ديانته تنتشر بوسائل مادية بل بقوة الروح القدس .

لذلك رد يسوع كيد الشيطان فى نحره بتصحيح النص الذى نقله محرفا ، وتطبيقه تطبيقا يتفق مع وصية الله القائلة : " لا تجرب الرب إلهك " وراح يشهره سلاحا فى وجه الشيطان .

" ثم أخذه أيضا ابليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له أعطيك هذه جميعها ان خررت وسجدت لى " ( مت 4 : 8 – 9 ) .

كانت هذه التجربة الأخيرة أقوى التجارب الثلاثة وأخطرها ، لأن أبليس عندها قد خلع ثيابه الخداعة وظهر كحقيقته الشيطانية ، وأعلن قصده الأثيم جهارا ، معترفا بأنه رئيس هذا العالم وأن بيده كل سلطان فى ممالك العالم القائمة على الفساد الكلى . كما أنه يرى فى يسوع ملكا متوجا من الله .

لسنا بحاجة إلى السؤال عن الكيفية التى أستحضر بها الشيطان جميع ممالك العالم أمام السيد المسيح ، ونحن الآن نعيش فى الدش والفضائيات الى تستحضر فى لمحة من جميع قارات العالم الأصوات والمناظر وتجعلها تحت سمع وبصر الناس ، فإذا كان البشر قد اكتشفوا واخترعوا ذلك فكم وكم يكون الشيطان رئيس هذا العالم ورئيس الهواء الواقف على ما فى عناصر الطبيعة من قوة وتأثير ! .

وبعد أن أرى الشيطان جميع ممالك العالم لربنا يسوع راح يقدمها له عطية مجانية ليغنيه عن الجهاد والآلام التى كان مزمعا أن يكابدها له المجد واعدا إياه أن يضع صولجان الملك فى يده وينقل إليه التكليف – حق التملك الذى له على ممالك العالم وكل مجدها ، فى لحظة بثمن زهيد جدا كما يراه الخبيث لا يكلف أكثر من أن يخر ساجدا أمامه .

" أذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " ( مت 4 : 10 )

لقد طلب الشيطان فى التجربتين الأولى والثانية من ربنا يسوع برهانا على قوته الإلهية بقوله : " إن كنت ابن الله " ، فلم يجبه مخلصنا بالطريقة التى طلب بها ، ولكن فى التجربة الثالثة أعطاه البرهان على أنه ابن الله بطريقة شعر بها الشيطان فى ذاته عندما قال له : " اذهب يا شيطان للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " فشعر الشيطان فى الحال أنه واقف أمام من يعرف أعماقه أعماق الهاوية ، أمام من لا يختفى عنه عمل الأثم ، شعر بقوة الأمر الصادر له من فم مخلصنا تدفعه إلى أعماق الجحيم دفعا ، ظل شاعرا بتأثيرها وخطرها حتى إذا ما رآه مارا فى الطريق ذات يوم صرخ قائلا : " آه ما لنا ولك يا يسوع الناصرى أجئت قبل الوقت لتعذبنا " ! .



" ثم تركه أبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه " ( مت 4 : 11 ) .

إن ترك ابليس للسيد المسيح كان فرارا وانكسارا واعترافا بعظمة المسيح وجبروته .

ولكن ابتعاد الشيطان كان إلى حين ، كما يقول القديس لوقا : " فارقه إلى حين " لأن الحرب قد تكررت مرارا وخاصة فى اليوم الأخير من حياة المسيح المقدسة على الأرض .

" جاءت ملائكة فصارت تخدمه " بعد أن انتصر على الشيطان ، جاءت الملائكة فى الوقت الصحيح والحين المناسب وليس كما طلب الشيطان ، فلما رفض المسيح العمل بمشورة الشيطان جاءت الملائكة وصارت تخدمه .

+ + +

 

 

اليوم الاول ( الاثنين ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات :
باكر قراءات القداس
خر 3 : 6 : 14 مز 40 : 11 رو 1 : 18 : 25 يهوذا 1 : 1 - 8 أع 4 : 36 – 5 : 11 مز 29 : 1 ، 2
اش 4 : 2 – 5 : 7 مر 9 : 25 - 29       لو 18 : 1 - 8

الانجيل

1 و قال لهم ايضا مثلا في انه ينبغي ان يصلى كل حين و لا يمل
2 قائلا كان في مدينة قاض لا يخاف الله و لا يهاب انسانا
3 و كان في تلك المدينة ارملة و كانت تاتي اليه قائلة انصفني من خصمي
4 و كان لا يشاء الى زمان و لكن بعد ذلك قال في نفسه و ان كنت لا اخاف الله و لا اهاب انسانا
5 فاني لاجل ان هذه الارملة تزعجني انصفها لئلا تاتي دائما فتقمعني
6 و قال الرب اسمعوا ما يقول قاضي الظلم
7 افلا ينصف الله مختاريه الصارخين اليه نهارا و ليلا و هو متمهل عليهم
8 اقول لكم انه ينصفهم سريعا و لكن متى جاء ابن الانسان العله يجد الايمان على الارض

+ + +


الصلاة بلجاجة (الأرملة وقاضي الظلم)

سبق فأعلن السيد أن "الصليب" هو طريق الملكوت، إذ ينبغي أن يتألم ابن الإنسان ويُرفض لكي يملك فينا، هكذا ينبغي أن تتألم كنيسته وتحمل صليبه وهي تنتظر مجيئه الأخير. ربما يتساءل البعض: كيف يمكننا أن نحتمل الصليب ونقبل الآلام بفرح من أجل الملكوت؟ وقد جاءت الإجابة هنا: الصلاة كل حين! مقدمًا لنا "مثلاً في أنه ينبغي أن يُصلي كل حين ولا يُمل" [1].

+ إذ تحدث ربنا عن المتاعب والمخاطر التي ستحل أضاف العلاج في الحال، أي الصلاة الدائمة بغيرة. ( الأب ثيؤفلاكتيوس )

+ إن كنت لم تنل موهبة الصلاة أو التسبيح كن لجوجًا فتنلْ... لا تمِل من الانتظار، ولا تيأس من عدم نوالك، لأنك ستنال فيما بعد. (القديس أوغريس )

+ لم يأمرنا أن نقيم صلاة من عشرة آلاف عبارة، لنأتي إليه لمجرد ترديدها... فنحن لا نأتي لكي نعلمه وإنما لنصارع معه، ونلتصق به بالطلب المستمر والتواضع وتذكر الخطايا. ( القديس يوحنا الذهبي الفم )

+ ذاك الذي فداك يظهر لك ما يريده منك أن تفعله؛ يريدك في صلاة دائمة؛ يودك أن تتأمل في قلبك البركات التي تصلي من أجلها؛ يريدك أن تسأله فتنال صلاحه الذي يشتاق أن يهبه لك.

إنه لن يبخل قط ببركاته على من يصلي، لكنه برحمته يحث البشر ألا يملوا في الصلاة.

تقبل تشجيع الرب لك بفرحٍ، ولترد أن تتمم ما يأمر به وأن تكف عما يمنعك عنه.

أخيرًا، تأمل ما يوهب لك من امتياز مغبوط، أنك تتحدث مع الله في صلواتك، مظهرًا له احتياجاتك، فإنه يجيبك لا بكلمات وإنما برحمته، إذ هو لا يستخف بالسؤالات، وهو لا يمل إلا إن توقفت أنت.

القديس يوحنا الذهبي الفم



+ لا تكن الصلاة مجرد عمل لوقت معين إنما هي حالة دائمة للروح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: تأكد أنك لا تحد صلاتك بجزءٍ معين من اليوم. اتجه إلى الصلاة في أي وقت، كما يقول الرسول في موضع آخر: "صلوا بلا انقطاع" (1 تس 5: 17). يخبرنا الرسول أن نصلي "في الروح" (أف 6: 18)، بمعنى أن الصلاة لا تكون فقط في الخارج (بكلمات مسموعة) بل وفي الداخل، فهي عمل العقل والقلب. بهذا يكون جوهر الصلاة هو رفع العقل والقلب نحو الله.

+ كتب بولس إلى أهل تسالونيكي: "صلوا بلا انقطاع" (1 تس 5: 17). وفي رسائل أخرى يوصي: "مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح" (أف 6: 18)، "واظبوا على الصلاة ساهرين فيها" (كو 4: 2)، "مواظبين على الصلاة" (رو 12: 12). وأيضًا يعلمنا المخلص عن الحاجة إلى الصلاة الدائمة بمثابرة خلال مثل المرأة التي بلجاجتها غلبت القاضي الظالم بسؤالها المستمر. من هذا كله يتضح أن الصلاة الدائمة ليست أمرًا عارضًا بل سمة أساسية للروح المسيحي. حياة المسيحي - بحسب الرسول - مختفية في الله بالمسيح (كو 3: 3)، لذا وجب على المسيحي أن يعيش في الله على الدوام بكل فكره ومشاعره؛ وإذ يفعل هذا إنما يصلي بلا انقطاع!

لقد تعلمنا أيضًا أن كل مسيحي هو "هيكل الله" فيه "يسكن روح الله" (1كو 3: 16؛ رو 8: 9). هذا الروح دائما حال فيه، ويشفع فيه، مصليًا في داخله "بأنات لا يُنطق بها" (رو 8: 26)، وهكذا يعلمه كيف يصلي بلا انقطاع.

+ اُذكر أن القديس باسيليوس الكبير قد أجاب على السؤال: كيف استطاع الرسل أن يصلوا بلا انقطاع؟ قائلاً أنهم في كل شيء كانوا يفعلونه يفكرون في الله، عائشين في تكريس دائم لله. هذا الحال الروحي كانت صلاتهم التي بلا انقطاع.

الأب ثيوفان الناسك
قدم السيد المسيح مثل الأرملة وقاضي الظلم ليحثنا على الصلاة الدائمة،

"كان في مدينة قاضٍ لا يخاف الله، ولا يهاب إنسانًا.

وكان في تلك المدينة أرملة،

وكانت تأتي إليه، قائلة: انصفني من خصمي.

وكان لا يشاء إلى زمان،

ولكن بعد ذلك قال في نفسه: وإن كنت لا أخاف الله، ولا أهاب إنسانًا.

فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائمًا فتقمعني.

وقال الرب: اسمعوا ما يقول قاضي الظلم.

أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً وهو متمهل عليهم؟!

أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا،

ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!" [2-8].

هكذا يحثنا السيد المسيح على الصلاة الدائمة بلا ملل، النابعة عن الإيمان بالله مستجيب الصلوات، لذا يعلن أنه في أواخر الدهور إذ يجحد الكثيرون الإيمان وتبرد المحبة تتوقف أيضا الصلاة، فيفقد الإنسان صلته وصداقته مع الله. هذا هو ما عناه بقوله "ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!"، معلنًا حزنه على البشرية المحرومة من الصداقة الإلهية.

+ فصل الإنجيل المقدس يبنينا في الالتزام بالصلاة والإيمان، بعدم اتكالنا على ذواتنا بل على الرب. أي تشجيع على الصلاة أكثر من مثل القاضي الظالم المُقدم لنا؟ فإن القاضي الظالم وهو لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا إلا أنه يصغي إلي الأرملة التي تسأله، مغلوبًا بلجاجتها وليس باللطف. إن كان قد سمع طلبتها ذاك الذي يكره أن يسأله أحد، فكم يسمع لنا نحن ذاك الذي يحثنا أن نسأله؟!

بالمقارنة العكسية إذ يعلمنا الرب أنه "ينبغي أن يُصلي كل حين ولا يمل" يضيف قائلاً: "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!" إن سقط الإيمان بطلت الصلاة، لأنه من يصلي لمن لا يؤمن به؟ لذلك عندما حث الرسول الطوباوي على الصلاة، قال: "لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رو 10: 13). ولكي يظهر أن الإيمان هو ينبوع الصلاة أكمل قائلاً: "فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟!" (رو 10: 14). كي نصلي يلزمنا أن نؤمن ولكي لا يضعف ذلك الإيمان الذي به نصلي فلنصلِ. الإيمان يفيض صلاة، وفيض الصلاة يقوي الإيمان. أقول، إن الإيمان يفيض صلاة، وفيض الصلاة يهب قوة الإيمان عينه. فلكي لا يضعف الإيمان أثناء التجربة قال الرب: "اسهروا (قوموا) وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (22: 46)... ماذا يعني "تدخلوا في تجربة" إلا ترك الإيمان؟ فالتجربة تشتد برحيل الإيمان، وتنتهي بنمو الإيمان... ولكي تعرفوا أيها الأحباء بأكثر وضوح أن الرب بقوله: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" يقصد ألا يضعف الإيمان ويهلك، يقول في نفس الموضع في الإنجيل: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (22: 31-32). ذاك الذي يحمي (إيماننا يصلي) أفلا يصلي ذاك الذي يتعرض للخطر؟

في كلمات الرب: "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعلّه يجد الإيمان على الأرض؟! [8]، يتحدث عن الإيمان الكامل، إذ يكون نادرًا على الأرض.( القديس أغسطينوس )



+ ينبوع كل بركة هو المسيح "الذي صار لنا حكمة من الله" (1 كو 1: 30)، إذ فيه صرنا حكماء وامتلأنا بالمواهب الروحية. الآن من كان متزن العقل يؤكد أن معرفة هذه الأشياء التي فيها نتقدم بكل وسيلة بالحياة المقدسة السامية والنمو في الفضيلة إنما هي عطية من الله، يتأهل الإنسان للفوز بها.

إننا نجد إنسانًا يسأل الله، قائلاً: "اظهر لي يا رب طرقك، علمني سبلك" (مز 24: 4). عديدة هي السبل التي تقودنا إلى الأمام نحو الحياة غير الفاسدة... لكنه يوجد سبيل واحد على وجه الخصوص نافع لكل السالكين فيه وهو الصلاة. لقد حرص المخلص نفسه أن يعلمنا إياه، مقدمًا لنا المثل الموضوع أمامنا كي نجاهد في الصلاة، إذ قيل: "وقال لهم أيضًا مثلاً في أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يُمل" [1].

إنني أؤكد أنه من واجب من يكرسون حياتهم للخدمة ألا يتراخوا في صلواتهم، ولا يحسبونها واجبًا ثقيلاً ومرهقًا، بل بالحري يفرحوا من أجل الحرية التي يهبها الله لهم، فإنه يريدنا أن نتحدث معه كأبناء مع أبيهم.

ألا يُعتبر هذا فضلاً يستحق منا كل تقدير؟ لو بلغ إلينا إنسان عظيم ذو سلطان أرضي وسمح لنا أن نتحدث معه بكامل الحرية، أما نحسب هذا سببًا لائقًا للفرح العظيم؟! فلماذا نشك إن كان الله يسمح لكل واحدٍ منا أن يوجه حديثه له كيفما شاء، مقدمًا للذين يخافونه كرامة عظيمة كهذه، يتأهلون لنوالها؟!

لنبطل كل كسل هذا الذي يجعل الناس يمارسون الصمت الضار عن الصلاة، ولنقترب بالحري إليه بالمديح والفرح إذ نلنا وصية أن نتحدث مع رب الكل وإله الجميع، ولنا المسيح شفيعًا يهبنا مع الآب تحقيق طلباتنا. يكتب بولس الطوباوي: "نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب (وربنا) يسوع المسيح" (2 كو 1: 2). بل والمسيح نفسه يقول لرسله القديسين: "إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي، اطلبوا تأخذوا" (يو 16: 24). إنه شفيعنا، إنه كفارة عنا، إنه معزينا، واهبنا كل سؤالاتنا.

من واجبنا أن نصلي بلا انقطاع ككلمات الطوباوي بولس (1 تس 5: 7)، وكما هو معروف لنا حسنًا ومؤكد لنا ان ذاك الذي نقدم له سؤلاتنا قادر أن يحقق لنا كل شيء. لقد قيل: "ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الريح وتدفعه، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئًا من عند الرب" (يع 1: 6-7). فمن هو مرتاب يرتكب بالحق سخرية، فإن كنت لا تؤمن أنه يقترب إليك ويبهجك ويتمم طلبتك لا تقترب إليه بالكلية، لئلا تُوجد متهمًا القدير بكونك في غباوة مرتابًا. إذن لنتجنب هذا المرض الدنيء (الارتياب).

الله ينصت للذين يقدمون له صلواتهم لا بتراخٍ أو إهمالٍ بل بجديةٍ واستمرارية، هذا ما يؤكد لنا المثل الماثل بيننا. فإن كان مجيء الأرملة المظلومة قد غلب القاضي الظالم الذي لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا، حتى وهبها طلبتها بغير إرادته، أفليس ذاك الذي يحب الرحمة ويكره الظلم، الذي يمد يده على الدوام لمحبيه، يقبل الذين يقتربون إليه ليل نهار، وينتقم لهم بكونهم مختاريه؟

v لكن، ربما يقول قائل: هوذا المسيح يقول لرسله القديسين: "أحبوا أعدائكم، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم"، فكيف نصرخ ضدهم (نطلب النقمة) دون أن نحتقر الوصية الإلهية؟...

عندما تُرتكب معاصي ضدنا شخصيًا، فلنحسب ذلك مجدًا لنا أن نغفر لهم، فنمتلئ حبًا مشتركًا، ونقتدي بالآباء القديسين، حتى وإن ضربونا أو سخروا بنا. نعم حتى وإن مارسوا كل أنواع العنف ضدنا، إذ يليق بنا أن نتحرر من كل عيب، ونسمو فوق الغضب والحقد. مثل هذا المجد يليق بالقديسين ويفرح الله. ولكن إن كانت خطية موجهة ضد مجد الله (كالبدع والهرطقات ومقاومة الكرازة بالحق)، فلنقترب من الله ونسأله معونته ونصرخ ضد مقاومي مجده، كما فعل العظيم موسى، إذ قال: "قم يا رب، فلتتبدد أعداؤك، ويهرب مبغضوك من أمامك" (عد 10: 35). كذلك الصلاة التي نطق بها الرسل القديسون... "أنظر إلى تهديداتهم"، بمعنى أبطل مقاومتهم وهب لعبيدك الحرية أن ينطقوا بكلمتك. ( القديس كيرلس الكبير )

+ إننا نجد أيضًا الشهداء في رؤيا يوحنا (6: 10) يطلبون الانتقام مع أنه قد طُلب منا صراحة أن نصلي لأجل أعدائنا ومضطهدينا... لنفهم أن الشرير يهلك بطريقين: إما بتحوله إلى البرّ (فيهلك شره) أو بمعاقبته إن فقد فرصة التوبة. فإنه حتى لو تحول كل البشر إلى الله فسيبقى الشيطان مُدانًا حتى النهاية. إذن فالأبرار يطلبون الحياة العتيدة، وليس باطلاً يسألون النقمة. (القديس أغسطينوس )

بمعنى آخر إن كانت هذه الأرملة تمثل الكنيسة كما تمثل كل عضو فيها، فإنها لا تطلب النقمة من الأشخاص بروح البغض والانتقام، إنما تطلب هلاك الشر من حياة الأشرار بقبولهم الإيمان، أو تطلب انقضاء الدهر حيث ينال أولاد الله الميراث ويُلقى عدو الخير وجنوده في الهلاك الأبدي.

+ + +

 

 

 

 

 

اليوم الثاني ( الثلاثاء ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

باكر قراءات القداس
أى 19 : 1 - 17 مز 41 : 4 ، 13 2 كو 9 : 6 - 15 يع 1 : 1 - 12 أع 4 : 13 - 22 مز 41 : 1
إش 5 : 7 - 16 لو 12 : 22 - 31       مر 10 : 17 - 27

الانجيل 

17 و فيما هو خارج الى الطريق ركض واحد و جثا له و ساله ايها المعلم الصالح ماذا اعمل لارث الحياة الابدية
18 فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحا ليس احد صالحا الا واحد و هو الله
19 انت تعرف الوصايا لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تسلب اكرم اباك و امك
20 فاجاب و قال له يا معلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي
21 فنظر اليه يسوع و احبه و قال له يعوزك شيء واحد اذهب بع كل ما لك و اعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني حاملا الصليب
22 فاغتم على القول و مضى حزينا لانه كان ذا اموال كثيرة
23 فنظر يسوع حوله و قال لتلاميذه ما اعسر دخول ذوي الاموال الى ملكوت الله
24 فتحير التلاميذ من كلامه فاجاب يسوع ايضا و قال لهم يا بني ما اعسر دخول المتكلين على الاموال الى ملكوت الله
25 مرور جمل من ثقب ابرة ايسر من ان يدخل غني الى ملكوت الله
26 فبهتوا الى الغاية قائلين بعضهم لبعض فمن يستطيع ان يخلص
27 فنظر اليهم يسوع و قال عند الناس غير مستطاع و لكن ليس عند الله لان كل شيء مستطاع عند الله

+ + +

الغني والتبعية للمسيح
هكذا تتكشف ملامح الطريق الجديد في بساطته أيضًا لغير الروحيين، إذ هو طريق المسيح المصلوب، وصيته تبدو صعبة تحمل في أعين الجسدانيين حرمانًا، ودعوته تحتضن الأطفال المحتقرين - في ذلك الحين - وتدعونا للطفولة في بساطتها ونقاوتها، والآن إذ يلتقي به شاب غني ارتبط قلبه بثروة هذا العالم حرمه هذا الثقل من العبور مع السيد خلال باب الحب للدخول إلى الطريق الضيق. فالغنى في ذاته ليس شرًا، لكنه يمثل ثقلاً للنفس المتعلقة به، يفقدها حياتها وينزعها عن الالتصاق بمخلصها.
يروي لنا الإنجيلي قصة هذا اللقاء، فيقول:
"وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له، وسأله:
أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟
فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا،
ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله.
أنت تعرف الوصايا:
لا تزن، لا تقتل، لا تسرق،
لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم أباك وأمك" [17-19].
خرج السيد المسيح إلى الطريق ليجد الشاب الغني المُمسك بحب المال هناك، فمع غناه يوجد في الطريق كمن محتاج يطلب شبعًا ولا يجد. شعر الشاب بالجوع والعطش فركض مسرعًا نحو السيد وجثا له وسأله: "أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الصالحة؟" وإذ كان الشاب لم يدرك بعد أنه المسيح ابن الله، عاتبه السيد: "لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله!" إنه لم ينف عن نفسه الصلاح فقد دعا نفسه الراعي الصالح (يو 10: 11؛ لو 2: 15)، لكنه يرفض أن يلقبه الشاب هكذا ظنًا أنه لقب للتفخيم كعادة اليهود في معاملاتهم مع القيادات الدينية، ينعتوهم بصفات خاصة بالله نفسه. وكأنه أراد من الشاب أن يراجع حساباته الداخلية من جهة إيمانه به، وثانيًا ألا يستخدم الألفاظ الخاصة بالله لتكريم الإنسان.
يقول القديس أمبروسيوس: [عندما قال: "أيها المعلم الصالح"، قالها بمعنى الصلاح الجزئي لا المطلق مع أن صلاح الله مطلق وصلاح الإنسان جزئي، لذا أجابه الرب: لماذا تدعوني صالحًا، وأنت تنكر إني أنا الله؟ لماذا تدعونني صالحًا والله وحده هو الصالح؟ لم ينكر الرب أنه صالح، بل يشير إلى أنه هو الله... إن كان الآب صالحًا فذاك أيضًا صالح، لأن كل ما للآب فهو له (يو 17: 10)... أليس صالحًا من يدبر صلاح النفس التي تطلبه؟ أليس صالحًا من يشبع بالخير عمرك (مز 103: 5)؟ أليس صالحًا من قال "أنا هو الراعي الصالح"؟ (يو 10: 11).]
ويقول القديس كيرلس الكبير: [لقد اقترب وتظاهر بالحديث اللطيف، إذ دعاه معلمًا ووصفه صالحًا، وقدم نفسه كمن يشتهي التلمذة له، إذ قال: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" لاحظ كيف مزج التملق بالخداع والخبث كمن يمزج الإفسنتين بالعسل، حاسبًا أنه بهذا يقدر أن يخدعه. عن مثل هؤلاء قال أحد الأنبياء القديسين: "لسانهم سهم قتال بالغش؛ بفمه يكلم صاحبه بسلام وفي نفسه عداوة" (أر 9: 8). وأيضًا يقول المرتل الحكيم عنهم: "فمهم مملوء لعنة ومرارة" (مز 10: 7)، وأيضًا: "ألين من الزيت كلماته وهي سيوف (حراب)" (مز 55: 21). لقد داهن يسوع، وحاول أن يخدعه، مظهرًا أنه خاضع له. لكن العالم بكل شيء أجاب: "لماذا تدعونني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله"، إذ مكتوب: "الأخذ الحكماء بحيلتهم" (أي 5: 13). ها أنت ترى كيف برهن السيد أن (الشاب) لم يكن حكيمًا ولا متعلمًا مع أنه رئيس لليهود (لو 18: 18). كأنه يقول له: أنت لا تؤمن إني الله، وارتدائي للجسد قد ضللك، فلماذا تنعتني بما يليق بالطبيعة العلوية وحدها مع أنك لا تزال تحسبني إنسانًا مثلك، وليس أعظم من الطبيعة البشرية؟ فإن الله وحده بطبيعته التي تسمو على الكل يُنسب إليه الصلاح بالطبيعة، الصلاح غير المتغير. أما الملائكة ونحن الذين على الأرض فصالحون بتمثلنا به أو بالحري بشركتنا معه... هو بالحق صالح، صالح مطلقًا، أما الملائكة والبشر فصالحون بكونهم خلقوا هكذا مشاركين في صلاح الله كما قلت... على أي الأحوال كأنه يقول له: أبدو لك إني لست حقًا الله، وها أنت بجهل وغباوة تنسب لي ما يخص الطبيعة الإلهية، في الوقت الذي فيه تحسبني إنسانًا مجردًا، الكائن الذي لا ينسب له الصلاح كطبيعة غير متغيرة، إنما يقتنيه حسب الإرادة الإلهية.]
إذ سأله الشاب عن الحياة الأبدية وجهه السيد إلى الوصايا، قائلاً: "أنت تعرف الوصايا: لا تزن، لا تقتل، لا تشهد بالزور، لا تسلب، أكرم أباك وأمك" [18-19]؛ فإننا لا نستطيع التمتع بالحياة الأبدية خارج الوصية الإلهية.
لقد جاءت إجابة السيد المسيح على خلاف ما توقع هذا الشاب رئيس مجمع يهودي، إذ يقول القديس كيرلس الكبير: [توقع رئيس المجمع أن يسمع المسيح يقول: كُف يا إنسان عن كتابات موسى، أترك الظل، فإنها كانت رموزًا ليس إلا، واقترب بالحري إلى وصاياي، التي أقدمها بالإنجيل. لكنه لم يجب هكذا إذ أدرك بمعرفته الإلهية غاية ذاك الذي جاء ليجربه. فكما لو لم تكن له وصايا أخرى بجانب الوصايا التي أعطيت لموسى أرسل إليهم (المجمع) الرجل (الرئيس) قائلاً له: "أنت تعرف الوصايا"، ولئلا يظن أنه يتحدث عن وصايا خاصة به عدّد الوصايا الواردة في الناموس، قائلاً: "لا تزن، لا تقتل، لا تشهد بالزور".]
على أي الأحوال إذ بحكمة أجابه السيد حتى لا يتصيد هذا الرئيس الشاب على السيد أنه كاسر للناموس، فإنه في نفس الوقت سحبه نحو الوصية الإلهية كمصدر للتمتع بالحياة الأبدية. وكما يقول القديس مرقس الناسك أن السيد المسيح نفسه مختفي في الوصية فمن يمارسها عمليًا يكشفه داخلها. بمعنى آخر إن كانت الحياة الأبدية هي تمتع بالمسيح "الحياة" عينها، فإننا نلتقي به عمليًا متى آمنا به خلال دخولنا إلى أعماق الوصية لنجده سّر تقدسينا ونقاوتنا وحياتنا.
أعلن الشاب أنه قد حفظ الوصايا منذ حداثته فأحبه المسيح، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لقد أحبه أو قبّله، مظهرًا تثبيت الحق في عمله بقول الشاب أنه حفظها كلها... إذ رآه قد أجاب بضمير صالح.]
ربما يتساءل البعض كيف يحب إنسانًا أو يقّبله وهو يعلم أنه لا يتبعه؟ نجيب على هذا أنه أحب فيه البداية الحسنة لكنه لا يحب انحرافه فيما بعد. أحب فيه ما استحق أن يُحب ليدفعه لما هو أعظم، لكن ليس إلزامًا ولا قهرًا، إنما بكامل حريته. لقد أحبه وقدم له الوصية التي تبلغ به إلى الكمال: "يعوزك شيء واحد. اذهب بع كل مالك، وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء. وتعال اتبعني حاملاً الصليب" [21].
من تعليقات الآباء على قول السيد بخصوص ترك محبة العالم وحمل الصليب:
+ حسنًا قال "يكون لك كنز" ولم يقل "حياة أبدية"، أنه يتحدث في أمر الغنى وتركه، مظهرًا أنه يتمتع بما هو أعظم مما ترك بقدر ما السماء أعظم من الأرض. القديس يوحنا الذهبي الفم
+ ليس من انطلقت في نفسه وفي عظامه محبة المسيح ويقدر أن يحتمل قذارة الشهوة المرذولة... ليس من سُبى عقله بحُسن رب الكل يقدر أن يسبيه شيء من هذا العالم بشهواته.
+ الذين ذاقوا عظمة حلاوته صاروا مبغضين كل نعيم.
+ كمال الوصايا هو الصليب، يعني نسيان شهوات العالم وإهمالها، مع اشتياق وتلهف وحب للرحيل، كقول القديس بولس: "لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23). (القديس يوحنا سابا )
أمام هذه الوصية الإلهية وقف الشاب متعثرًا... فقد رأى طريق السيد المسيح صعبًا، لأن محبته للمال قد حرمته من الدخول، إذ يقول الإنجيلي: "فاغتم على القول، ومضى حزينًا، لأنه كان ذا أموالٍ كثيرةٍ" [22]. تألم السيد المسيح لهذا المنظر حين رأى أمور هذا العالم التي خلقها الله للإنسان كي يستعملها استعملته هي لحسابها عبدًا، وعِوَض أن تسنده أذلت قلبه، وربطته في شباك التراب وفخاخه، لهذا "نظر يسوع حوله، وقال لتلاميذه: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله" [23]. إذ تحير التلاميذ "قال لهم: يا بني، ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله. مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" [24-25].
لقد كشف لهم أن العيب لا في الغنى إنما في القلب المتكل على الغنى!
v قال الرب هذا لتلاميذه الفقراء الذين لا يملكون شيئًا ليعلمهم ألا يخجلوا من فقرهم، مبررًا لهم لماذا لم يسمح لهم أن يملكوا شيئًا. ( القديس يوحنا الذهبي الفم )
يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا رمزيًا لكلمات السيد المسيح: "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" بالقول بأن الجمل يشير إلى شعوب الأمم (إش 30: 6) وثقب الإبرة يشير إلى طريق الصليب الضيق، وكأن دخول الأمم خلال طريق السيد المسيح الضيق لهو أيسر من دخول الأمة اليهودية التي تمثل الغنى من جهة تمتعها بالناموس والآباء والأنبياء والوعود الخ. إلى ملكوت الله!
ويرى القديس كيرلس الكبير أن كلمة "جمل" هنا تشير إلى الحبال السميكة التي يستخدمها البحارة في السفن، هذه التي لا يمكن أن تدخل في ثقب إبرة.
إذ سمع التلاميذ كلمات السيد المسيح "بهتوا إلى الغاية، قائلين بعضهم لبعض: فمن يستطيع أن يخلص؟ فنظر إليهم يسوع وقال: عند الناس غير مستطاع، ولكن ليس عند الله، لأن كل شيء مستطاع عند الله" [26-27]. لقد أدرك التلاميذ صعوبة الطريق بسبب إغراءات المال، لكن رب المجد كشف لهم أنه ليس شيء غير مستطاع لدى الله، فإن كان يسمح لأحد بالغنى، فإنه يقدر بنعمته أن يحول هذا الغنى للخير، كما حوّل غنى إبراهيم ويوسف وغيرهما لمجده. الحاجة إلى واحد، الله الذي يسند النفس، ويجتذبها من كل حبال الشر، ويهبها إمكانية العمل لحساب مملكة الله.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [سبب قوله أن الله هو العامل، الكشف عن أن من يضعه الله في هذا الطريق (الغنى) يحتاج إلى نعمة عظيمة، مظهرًا أنه ستكون المكافأة عظيمة للغني الذي يتبع التلمذة للمسيح.]

+ + +





اليوم الثالث ( الاربعاء ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات

باكر قراءات القداس
خر 2 : 11 - 20 مز 18 : 17 ، 18 رو 3 : 1 - 17 2 يو 1 : 8 - 13 أع 5 : 3 - 11 مز 18 : 1 ، 2
إش 5 : 17 - 25 مت 5 : 17 - 24       مت 15 : 32 - 38

الانجيل

32 و اما يسوع فدعا تلاميذه و قال اني اشفق على الجمع لان الان لهم ثلاثة ايام يمكثون معي و ليس لهم ما ياكلون و لست اريد ان اصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق
33 فقال له تلاميذه من اين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده
34 فقال لهم يسوع كم عندكم من الخبز فقالوا سبعة و قليل من صغار السمك
35 فامر الجموع ان يتكئوا على الارض
36 و اخذ السبع خبزات و السمك و شكر و كسر و اعطى تلاميذه و التلاميذ اعطوا الجمع
37 فاكل الجميع و شبعوا ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة
38 و الاكلون كانوا اربعة الاف رجل ما عدا النساء و الاولاد

+ + +

تحنّنه على طالبيه

إذ التفَّت الجماهير حوله ليمكثوا معه ثلاثة أيام، لم ينتظر التلاميذ أن يسألوه أن يصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى، ويبتاعوا طعامًا كما حدث قبلاً (مت 14: 15) إنّما استدعاهم ليقدّم خلالهم لشعبه احتياجاتهم حتى الجسديّة؛ ربّما لأن الشعب في هذه المرة لم يشعر بالجوع بسبب بقائهم مدة طويلة يستمعون كلماته المشبعة، أو لأن التلاميذ اختبروه قبلاً في إشباعهم.

+ + +

 

 

 

 

اليوم الرابع ( الخميس ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات :

باكر قراءات القداس
تث 5 : 15 - 22 مز 28: 9 رو 16 : 17 - 27 يع 3 : 1 - 12 أع 12 : 12 - 23 مز 48 : 10 ، 11
إش 6 : 1 - 12 مت 11 : 20 - 30       مت 19 : 16 - 30

الانجيل


16 و اذا واحد تقدم و قال له ايها المعلم الصالح اي صلاح اعمل لتكون لي الحياة الابدية
17 فقال له لماذا تدعوني صالحا ليس احد صالحا الا واحد و هو الله و لكن ان اردت ان تدخل الحياة فاحفظ الوصايا
18 قال له اية الوصايا فقال يسوع لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد بالزور
19 اكرم اباك و امك و احب قريبك كنفسك
20 قال له الشاب هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد
21 قال له يسوع ان اردت ان تكون كاملا فاذهب و بع املاكك و اعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني
22 فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا لانه كان ذا اموال كثيرة
23 فقال يسوع لتلاميذه الحق اقول لكم انه يعسر ان يدخل غني الى ملكوت السماوات
24 و اقول لكم ايضا ان مرور جمل من ثقب ابرة ايسر من ان يدخل غني الى ملكوت الله
25 فلما سمع تلاميذه بهتوا جدا قائلين اذا من يستطيع ان يخلص
26 فنظر اليهم يسوع و قال لهم هذا عند الناس غير مستطاع و لكن عند الله كل شيء مستطاع
27 فاجاب بطرس حينئذ و قال له ها نحن قد تركنا كل شيء و تبعناك فماذا يكون لنا
28 فقال لهم يسوع الحق اقول لكم انكم انتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الانسان على كرسي مجده تجلسون انتم ايضا على اثني عشر كرسيا تدينون اسباط اسرائيل الاثني عشر
29 و كل من ترك بيوتا او اخوة او اخوات او ابا او اما او امراة او اولادا او حقولا من اجل اسمي ياخذ مئة ضعف و يرث الحياة الابدية
30 و لكن كثيرون اولون يكونون اخرين و اخرون اولين

+ + +

الملكوت والغِنى

يروي الإنجيلي عن لقاء بين السيِّد المسيح وشاب غني:

"وإذا واحد تقدّم وقال له:

أيها المعلّم الصالح،

أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبديّة؟" [16].

جاء هذا الشاب وكأنه يمثّل الأغنياء، وجاءت إجابة السيِّد تكشف عن إمكانيّة دخول الأغنياء الملكوت خلال الباب الضيق. ولكن قبل أن يجيبه على سؤاله قال له: "لماذا تدعوني صالحًا؟! ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله" [17]. إنه لم يقل "لا تدعوني صالحًا"، إنّما رفض أن يدعوه هكذا كمجرد لقب، ما لم يؤمن بحق أنه الصالح وحده. فقد اِعتاد اليهود على دعوة رجال الدين بألقابٍ لا تليق إلا بالله وحده، وقد أراد السيِّد تحذيرهم بطريقة غير مباشرة. وكأنه السيِّد يقول له: إن آمنت بي أنا الله فلتقبلني هكذا وإلا فلا. هذا وقد أكّد السيِّد نفسه أنه صالح، فيقول: "أنا هو الراعي الصالح" (يو 10: 11)، كما يقول: "من منكم يبكِّتني على خطيّة؟" (يو 8: 46)

لقد عُرف الأغنياء بالمظاهر الخارجيّة وحب الكرامات، وكأن السيِّد المسيح بإجابته هذه أراد أن يوجِّه الأغنياء إلى تنقية قلوبهم من محبّة الغنى بطريق غير مباشر، مع رفض محبّة الكرامات والألقاب المبالغ فيها.

لقد أظهر هذا الشاب شوقه للحياة، لذلك قدّم له السيِّد إجابة عن اشتياقه، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [الذين ينحنون أمامه بعنق عقولهم للطاعة يهبهم وصايا ويعطيهم نواميس. ويوزِّع عليهم الميراث السماوي، ويقدّم لهم البركات الروحيّة، فيكون بالنسبة لهم مخزنًا لعطايا لا تسقط.]

لقد أجابه السيِّد: "إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا" [17]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كنت لا تريد أن تحفظ الوصايا، فلماذا تبحث عن الحياة؟ إن كنت تتباطأ في العمل، فلماذا تُسرع نحو الجزاء؟]

دخل السيِّد مع الشاب في حوار حول حفظ الوصايا، حتى يكشف له نقطة ضعفه، ألا وهي محبّة المال. وجاءت النصيحة: "إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع أملاكك، وأِعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني" [21].

يقول القدّيس جيروم: [هذه هي ذروة الفضيلة الكاملة الرسوليّة أن يبيع الإنسان كل ما يملك ويوزِّعه على الفقراء (لو 18: 22)، متحرّرًا من كل عائق ليعبر إلى الممالك السماويّة مع المسيحٍٍٍ.] [خادم المسيح الكامل ليس له شيء بجانب المسيح.] [ترْجِم كلماته إلى عمل، فإنك إذ تتعرى تتبع الصليب حيث العرس، وتصعد سلّم يعقوب الذي يسهل صعوده لمن لا يحمل شيئًا.] كما يقول: [يَََعد الشيطان بمملكة وغنى ليُحطم الحياة، أمّا الرب فيَعدْ بالفقر ليحفظ الحياة.]

يقول القدّيس كبريانوس: [إن كان الكنز في السماء، فيكون القلب والعقل والمشاعر في السماء، ولا يستطيع العالم أن يغلب الإنسان الذي ليس فيه شيء يمكن أن يُغلب. إنك تستطيع أن تتبع الرب حرًا بلا قيود كما فعل الرسول - وكثيرون في أيامهم، الذين تركوا مالهم وأقرباءهم والتصقوا بالمسيح برباطات لا تنفك.]

يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كانت لديهم الإرادة أن يرفعوا قلوبهم إلى فوق، فليدّخروا ما يحبّونه هناك. فإنهم وإن كانوا على الأرض بالجسد فليسكنوا بقلبهم مع المسيح. لقد ذهب رأس الكنيسة أمامهم، ليت قلب المسيحي أيضًا يسبقه إلى هناك... فإن كل مسيحي يذهب في القيامة إلى حيث ذهب قلبه الآن. لنذهب إلى هناك بذاك العضو (القلب) الذي يمكنه الآن أن يذهب. فإن إنساننا بكلّيته سيتبع قلبه ويذهب إلى حيث ذهب القلب... لنرسل أمتعتنا مقدّمًا إلى حيث نستعد للرحيل.]

كثيرون نَفَّذوا هذه الوصيّة بطريقة حرفيّة، فمن أجل الدخول إلى الكمال باعوا كل شيء وأعطوا الفقراء، ليكون السيِّد المسيح نفسه كنزهم. لكن فيما هم يبيعون بطريقة حرفيّة باعوا ما في القلب فلم يعد للعالم مكان فيه. فالبيع الخارجي يلزم أن يرافقه بيع داخلي وشراء، أي بيع من القلب مع اقتناء للسيّد المسيح ليملأ القلب، الذي سبق فأسره حب الغنى واهتمامات بالحياة.

هذا ما أكّده الآب موسى، قائلاً: [إننا نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبُّوس أو ريشة، بينما لو وجَّهوا أنظارهم نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون بالغنى العظيم، يتركون أيضًا كل شيء.]

ويقدّم لنا الكتاب المقدّس أبانا إبراهيم مثالاً حيًا للغني الذي باع من قلبه من أجل الرب، مع أنه لم يعش كفقير. ففي الظهيرة كان يترقَّب مجيء غريب يشاركه الطعام، ويطلب من زوجته أن تهيئ الطعام بيديها ولا تتركه لجاريتها وخَدَمها. إنه يعيش كمن لا يملك شيئًا، فقد باع كل شيء، ليس في القلب موضع للغنى أو الهمّ. يظهر ذلك بوضوح في أكثر من موقف، فعندما حدثت مخاصمة بين رعاة مواشيه ورعاة مواشي لوط في محبّة سأل ابن أخيه أن يختار الأرض التي تروق له دون أن يضع قلبه على موضع معيّن، قائلاً له: "لا تكن مخاصَمة بيني وبينك، وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخَوان. أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عنّي، إن ذهبت شمالاً فأنا يمينًا وإن يمينًا فأنا شمالاً" (تك 13: 8-9). وعندما أُنقذ لوط والملوك الخمسة والنساء وكل ممتلكاتهم في كسرة كدرلعومر، إذ أراد أن يترك ملك سدوم لإبراهيم الممتلكات مكتفيًا بأخذ النفوس، أصرّ إبراهيم ألاّ يأخذ خيطًا ولا شِراك نعْل، ولا من كل ما هو له (تك14: 23).

إذ نعود إلى الشاب نراه غير قادرٍ على تنفيذ الوصيّة وقد مضى حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة. هنا وجّه السيِّد حديثه لتلاميذه: "الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات. وأقول لكم أيضًا أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" [24]. لم يقل السيِّد "أنه يستحيل"، وإنما "يعسُر"، ومع هذا فإنه إذ بُهت التلاميذ جدًا قائلين: "إذًا من يستطيع أن يخلُص؟" نظر إليهم يسوع ربّما نظرة عتاب مملوءة ترفُّقًا، وقال لهم: "هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شيء مستطاع" [26]. إنه يعاتب تلاميذه الذين لم يُدركوا بعد أنه ليس شيء غير مستطاع لدي الله. حقًا إن الله قادر أن يعبُر بالجمل من ثقب إبرة، بتفريغ قلب الغَني من حب الغِنى وإلهاب قلبه بحب الكنز السماوي.

وللقدّيس جيروم تعليق جميل على ذلك، إذ يقول: [لكن ما هو مستحيل لدى البشر ممكن لدى الله" (مر 10: 27). هذا ما نتعلّمه من المشورة التي قدّمها الرسول لتيموثاوس: "أوْصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغِنى، بل على الله الحيّ الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتّع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الحقيقيّة (الأبديّة)" (1 تي 6: 17-19). ها نحن نتعلّم كيف يمكن للجمل أن يعبُر من ثقب إبرة، وكيف أن حيوانًا بسنام على ظهره إذ يُلقي عنه أحماله يمكن أن يصير له جناحيّ حمامة (مز 55: 6)، يستريح في أغصان الشجرة التي نمت من حبّة الخردل (مت 13: 31-32). وفي إشعياء نسمع عن الجِمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبًا ولبانًا لمدينة الرب (إش 60: 6). على هذه الجِمال الرمزيّة أحضر التجَّار الإسماعيليّون (تك 37: 25) روائح وبخور وبلْسم الذي ينمو في جلعاد لشفاء الجروح (إر 8: 22) ولسعادتهم اشتروا يوسف وباعوه، فكان مخلّص العالم هو تجارتهم.]

يحذّر القدّيس أغسطينوس الفقراء لئلا يتّكلوا على فقرهم في ذاته كجواز لهم بالدخول إلى الملكوت، قائلاً: [ِاستمعوا أيها الفقراء إلى المسيح... من كان منكم يفتخر بفقره ليَحْذر من الكبرياء لئلا يسبقه الغَني بتواضعه. اِحذروا من عدم الشفقة لئلا يفوق عليكم الأغنياء بورعهم. اِحذروا من السُكر لئلا يفوق عليكم الأغنياء بوقارهم. إن كان ينبغي عليهم ألا يفتخروا بغناهم، فلا تفتخروا أنتم بفقركم.] وفي نفس المقال يحذِّر أيضًا الأغنياء قائلاً: [الكبرياء هو الحشرة الأولى للغِنى، إنه العُثْ المُفسد الذي يتعرّض للكل ويجعله ترابًا.] مرّة أخرى يحدّث الاثنين معًا فيقول: [أيها الأغنياء اُتركوا أموالكم، أيها الفقراء كُفُّوا عن السلب! أيها الأغنياء وزّعوا إيراداتكم، أيها الفقراء لجِّموا شهواتكم. استمعوا أيها الفقراء إلى الرسول نفسه: "وأمّا التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة" (1 تي 6:6)... ليس لكم منزلاً مشتركًا مع الأغنياء، لكن تشاركونهم في السماء وفي النور. اطلبوا القناعة والكفاف ولا ترغبوا فيما هو أكثر.]

+ + +

 

 

 

اليوم الخامس ( الجمعة ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات :

باكر قراءات القداس
تث 8 : 1 – 9 : 4 مز 116 : 7 ، 8 عب 12 : 28 1بط 4
7 - 16
أع 15 : 22 - 31 مز 29 : 10 ، 11
1صم 17 : 16 – 18 : 8 مت 15 : 39 – 16 : 12       لو 6 : 39 - 49

الانجيل

39 و ضرب لهم مثلا هل يقدر اعمى ان يقود اعمى اما يسقط الاثنان في حفرة
40 ليس التلميذ افضل من معلمه بل كل من صار كاملا يكون مثل معلمه
41 لماذا تنظر القذى الذي في عين اخيك و اما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها
42 او كيف تقدر ان تقول لاخيك يا اخي دعني اخرج القذى الذي في عينك و انت لا تنظر الخشبة التي في عينك يا مرائي اخرج اولا الخشبة من عينك و حينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى الذي في عين اخيك
43 لانه ما من شجرة جيدة تثمر ثمرا رديا و لا شجرة ردية تثمر ثمرا جيدا
44 لان كل شجرة تعرف من ثمرها فانهم لا يجتنون من الشوك تينا و لا يقطفون من العليق عنبا
45 الانسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح و الانسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فانه من فضلة القلب يتكلم فمه
46 و لماذا تدعونني يا رب يا رب و انتم لا تفعلون ما اقوله
47 كل من ياتي الي و يسمع كلامي و يعمل به اريكم من يشبه
48 يشبه انسانا بنى بيتا و حفر و عمق و وضع الاساس على الصخر فلما حدث سيل صدم النهر ذلك البيت فلم يقدر ان يزعزعه لانه كان مؤسسا على الصخر
49 و اما الذي يسمع و لا يعمل فيشبه انسانا بنى بيته على الارض من دون اساس فصدمه النهر فسقط حالا و كان خراب ذلك البيت عظيما

+ + +

اهتم الآباء - خاصة آباء البريّة - بالتدقيق في عدم الإدانة، فحسبوا أنه ليس شيء يغضب الله مثلها، إذ تنزع نعمته عمَّن يرتكبها ويرفع رحمته عنه حتى إذا ما ترفَّق بأخيه ينال هو النعمة الإلهيّة ومراحم الله. يرى الأب بومين والأب موسى أن من يدين أخاه ينشغل بخطايا الغير لا بخطاياه، فيكون كمن يبكي على ميِّت الآخرين ويترك ميِّته. يقول الأب دوروثيؤس: [إننا نفقد القوَّة على إصلاح أنفسنا متطلِّعين على الدوام نحو أخينا]، [ليس شيء يُغضب الله أو يعرِّي الإنسان أو يدفعه لهلاكه مثل اغتيابه أخيه أو إدانته أو احتقاره... أنه لأمر خطير أن تحكم على إنسان من أجل خطيّة واحدة ارتكبها، لذلك يقول المسيح: "يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تُبصر جيِّدًا أن تُخرج القذَى الذي في عين أخيك" [42]. أنظر فإنَّه يشبِّه خطيَّة الأخ بالقذَى أما حُكمك المتهوِّر فيحسبه خشبَة. تقريبًا أصعب خطيَّة يمكن معالجتها هي إدانة أخينا!... لماذا بالحري لا ندين أنفسنا ونحكم على شرِّنا الذي نعرفه تمامًا وبدقة والذي نعطي عنه حسابًا أمام الله! لماذا نغتصب حق الله في الإدانة؟! الله وحده يدين، له أن يبرِّر وله أن يدين. هو يعرف حال كل واحد منَّا وإمكانيَّاتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا. فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. أنه يدين أعمال الأسقف بطريقة، وأعمال الرئيس بطريقة أخرى. يحكم على أب دير، أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، المريض غير ذي الصحَّة السليمة. ومن يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيء ومكوِّن الكل والعارف بكل الأمور؟] يكمل الأب دوروثيوس حديثه عن عدم الإدانة بعرض قصَّة يتذكَّرها عن سفينة كانت تحمل عبيدًا، إذ تقدَّمت عذراء قدِّيسة إلى صاحب السفينة واِشترت فتاة صغيرة حملتها معها إلى حجرتها لتدرِّبها على الحياة التقويّة كابنة صغيرة لها، ولم يمضِ إلا قليلاً حتى جاءت فرقة للرقص، اشترت أخت هذه الفتاة الصغيرة لتدرِّبها على أعمال اللهْو والمُجون والحياة الفاسدة... هنا يقف الأب دوروثيؤس مندهشًا، أن الفتاتين قد اُغْتصِبتا من والديهما، إحداهما تتمتَّع بمخافة الله تحت قيادة قدِّيسة محبَّة وأخرى بغير إرادتها اُغْتُصبت لممارسة الحياة الفاسدة. لهذا يتساءل: أليس لله وحده أن يدين الفتاتين بطريقة يصعب علينا إدراكها؟! فنحن نتسرَّع في الحكم، أما الله فعالم بالأسرار طويل الأناة، وحده قادر أن يبرِّر أو يدين.

يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على كلمات السيِّد عن عدم الإدانة، قائلاً:

[بينما يطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست دون مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1). فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة. فلنصلِ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدْ العون والمساعدة، ولنَسعَ في ألاَّ نسقط كما سقطوا. فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟! إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتْك نفسك بمحاكمة الآخرين، فأعلم أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.

فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المرنِّم المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يارب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3)، وفي موضع آخر يكشف المرنِّم عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: "أذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14).]

"لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك،

وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" [41].

يكمل القدِّيس كيرلس الكبير حديثه: [سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا". والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين والحكم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا ونجرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا. فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟! أنك لجريء إذا قمت بذلك، فالأولي بك أن تنزع عنك مخازيك وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبين فيما هو دون جرائمك.

أتريد أن تنجلي بصوتك فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرْ؟ كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وسرعان ما وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ إلا واقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: أنظر كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع. نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: "كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلاً، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم" (إش 1: 21-22).

رغمًا عن هذه المُنكرات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس تمادوا في خِزيهم ومكرهم ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس. إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل" (مت 23: 23-24).

كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت 23: 27). هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.

إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يصح له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذى به، وله عند ذلك حق الحكم على الآخرين إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة، أما إذا كان المُرشد مهمِلاً ومرذولاً فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين. كذلك ينصحنا الرسل المغبوطون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1). ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19).]

يقول أيضًا الأب مار إسحق السرياني: [حينما تمتلئ النفس من ثمار الروح، تقوى تمامًا على الكآبة والضيق... وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس... تطرد كل فكر يوَسْوس لها بأن هذا صالح وذاك شرِّير، هذا بار وذاك خاطئ. تُرتب حواسِها الداخليّة، وتصالحها مع القلب والضمير، لئلا يتحرَّك واحد منها بالغضب أو بالغيرة على واحد من أفراد الخليقة. أما النفس العاقرة الخالية من ثمار الروح، فهي لابسة الحقد على الدوام والغيظ والضيق والكآبة والضجر والاضطراب، وتدين على الدوام قريبها بجيِّد ورديء.]

وأيضًا من الكلمات المأثورة في عدم إدانة الآخرين:

+ إيَّاك أن تعيب أحدًا من الناس لئلاَّ يبغض الله صلاتك. القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير

+ الذي يدين، فقد هدم سوره بنقص معرفته. القدِّيس أنبا موسى الأسود

+ الإنسان الذي يطلق لسانه على الناس بكل جيِّد ورديء لن يؤهَّل للنعمة من الله . الأب مار إسحق السرياني

+ لا تدن أحدًا، ولا تقع بإنسان، والله يهب لك الهدوء والنِياح في القلاّية.الأنبا بيمن

+ قيل أخطأ أحد الاخوة فطُرد، فقام الأب بيصاريون، وخرج معه، وهو يقول: "وأنا أيضًا خاطئ".القدِّيس بالاديوس

+ إذا اِنشغلتَ عن خطاياك، سقطتَ في خطايا أخيك. الأنبا إشعياء

+ (في قصة المرأة الزانية): يسوع قد دان الخطيّة لا الإنسان.القدِّيس أغسطينوس

حدَّثنا السيِّد المسيح صديقنا السماوي عن الحب، مترجمًا عمليًا خلال العطاء، والستر على ضعفات الآخرين، بهذا يقدِّم لنا مفتاح الدخول إلى حضرة الله للتمتُّع بحبِّه، وكأن هذا يسلِّمنا مفتاح خزانته الإلهيّة، إذ يقول: "اغفروا يُغفر لكم، اعطوا تُعطوا" [37]. وقد دعا القدِّيس أغسطينوس هذين العمليْن: السَتْر على الآخرين، والعطاء جناحي الصلاة، يرفعانها إلى العرش الإلهي بلا عائق. فمن كلماته: [البِرْ الأول يمارس في القلب عندما تغفرون لأخيكم عن أخطائه، والآخر يُمارس في الخارج عندما تعطون الفقير خبزًا. قدِّموا البِرِّين معًا، فبدون أحد هذين الجناحين تبقى صلواتكم بلا حركة]، [إن أردتم أن يُستجاب لكم عندما تطلبون المغفرة: اغفروا يُغفر لكم، اِعطوا تُعطوا.]

أخيرًا أكَّد السيِّد المسيح أنه في تقديم وصاياه عن المحبَّة يطلب تغيير القلب في الداخل، يطلب في المؤمن أن يكون شجرة صالحة ليأتي بالثمر الصالح، إذ يقول:

"لأنه ما من شجرة جيِّدة تُثمر ثمرًا رديًا،

ولا شجرة رديَّة تثمر ثمرًا جيِّدًا.

لأن كل شجرة تُعرف من ثمرها،

فإنَّهم لا يجتنون من الشوكِ تينًا،

ولا يقطِفون من العُلِّيق عنبًا.

الإنسان الصالح من كِنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح،

والإنسان الشرِّير من كنز قلبه الشرِّير.

فإنَّه من فضلة القلب يتكلَّم فمه" [43-45].

اعتمد أتباع فالنتينوس على هذه العبارات وما شابهها ليُعلنوا اختلاف طبائع النفوس، إذ في نظرهم توجد نفوس صالحة بطبيعتها لا يمكن أن تفسد، وتوجد نفوس شرِّيرة بطبيعتها لا يمكن إصلاحها، الأولي هي الشجرة الصالحة التي تُثمر صلاحًا، والأخرى هي الشجرة الرديئة التي تُنتج رديًا. وقد انبَرى كثير من الآباء يفنِّدون هذا الفكر مؤكِّدين حرِّيَّة إرادة الإنسان وإمكانيَّتِه في المسيح يسوع إصلاح حياته... فإن كان شجرة رديئة تبقى تعطي ثمرًا رديًا حتى تتحوّل إلى شجرة جيدة في الرب. هذا ما أكَّده القدِّيس أغسطينوس في عظاته المنتخبة على العهد الجديد.

في القرن الثاني الميلادي يقول العلامة ترتليان: [لا يمكن أن تكون هذه النصوص من الكتاب المقدَّس غير متَّفقة مع الحق، فإنَّ الشجرة الرديئة لن تقدِّم ثمارًا صالحة ما لم تُطعم فيها الطبيعة الصالحة، ولا الشجرة الصالحة تُنتج ثمارًا شريرة ما لم تفسد. فإنَّه حتى الحجارة يمكن أن تصير أولادًا لإبراهيم إن تهذَّبت بإيمان إبراهيم، وأولاد الأفاعي يمكنهم أن يقدِّموا ثمارًا للتوبة إن جحدوا طبيعتهم المخادعة. هذه هي قوَّة نعمة الله التي هي بالحق أكثر فاعليَّة من الطبيعة ذاتها.]

لو أن الطبيعة البشريّة مسيَّرة تلتزم بالخير أو الشرّ بغير إرادتها، وليس هناك من رجاء في التغيير لما كان السيِّد المسيح يحثُّنا: "اجعلوا الشجرة جيدة"، ولما كان الحديث في ذاته ذا نفع. فالرب يتحدَّث معنا لكي نقبل عمله فينا، فيكون تنفيذ وصاياه لا خلال السلوك الخارجي وحده، وإنما تغيير طبيعتنا القديمة، إذ يقول: "الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج صلاحًا".

الحاجة إلى البناء على الصخر

يعود فيؤكِّد السيِّد المسيح غاية وصاياه أن تكون ثمرًا طبيعيًا للقلب الجديد الذي يتأسَّس عليه، إذ شبَّه حياتنا ببناء يليق أن يُقام على السيِّد المسيح "صخر الدهور" فلا تستطيع زوابع الأحداث أن تهدِمه.

إيماننا بالمسيح هو الصخرة الداخليّة، خلاله نتقبَّل السيِّد المسيح نفسه كسِرْ قوَّتنا، يعمل فينا بروحه القدِّوس ليرفعنا إلى حضن أبيه. أما من لا يتأسَّس على "الصخرة الحقيقيّة" فيهتز بناؤه يمينًا وشمالاً بتيَّارات عدوْ الخير المتقلِّبة، الذي لا يهدأ حتى يحطِّمه تمامًا.

+ + +

 

 

 

 

 

 

اليوم السادس ( السبت ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات :

باكر قراءات القداس
مز 25 : 7 ، 8 ، 11 رو 14: 1 - 18 يع 1 : 22 - 27 أع 22 : 17 - 30 مز 118 : 19 ، 20
مر 9 : 43 - 50       متى 7 : 13 - 21

الانجيل :

13 ادخلوا من الباب الضيق لانه واسع الباب و رحب الطريق الذي يؤدي الى الهلاك و كثيرون هم الذين يدخلون منه
14 ما اضيق الباب و اكرب الطريق الذي يؤدي الى الحياة و قليلون هم الذين يجدونه
15 احترزوا من الانبياء الكذبة الذين ياتونكم بثياب الحملان و لكنهم من داخل ذئاب خاطفة
16 من ثمارهم تعرفونهم هل يجتنون من الشوك عنبا او من الحسك تينا
17 هكذا كل شجرة جيدة تصنع اثمارا جيدة و اما الشجرة الردية فتصنع اثمارا ردية
18 لا تقدر شجرة جيدة ان تصنع اثمارا ردية و لا شجرة ردية ان تصنع اثمارا جيدة
19 كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى في النار
20 فاذا من ثمارهم تعرفونهم
21 ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يفعل ارادة ابي الذي في السماوات

+ + +

الباب الضيق

حياة النقاوة التي تؤهّل القلب لمعاينة الله ليست إلا شركة آلام مع المسيح المصلوب، لهذا يقول الرب نفسه: "ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب، وأكرب الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه" [13-14].

+ دُعي الطريق كربًا وضيقًا لكي يخفّف من أتعابنا، ولكي يُعلن أن الأمان عظيم والمسرّة عظيمة... الطريق كرب والباب ضيّق، لكن المدينة التي ندخلها ليست هكذا، لهذا لا نطلب هنا الراحة كما لا تتوقّع ألمًا هناك.  القدّيس يوحنا الذهبي الفم

+ كرب هو الطريق الذي يدخل بنا إلى الحياة، وضيّق أيضًا، لكن المكافأة رائعة وعظيمة إذ ندخله في مجد!  القدّيس كبريانوس

+ الباب الواسع هو الملاذ العالميّة التي يطلبها البشر، والباب الضيّق هو الذي ينفتح خلال الجهاد والأصوام كالتي مارسها الرسول بولس: "في ضربات، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام" (2 كو 6: 5)، "في تعبٍ وكدٍّ، في أسهارٍ مرارًا كثيرة، في جوعٍ وعطشٍ، في أصوامٍ مرارًا كثيرة في بردٍ وعُرْيٍ" (2كو11: 27). وقد شجّع الرسول بولس تيموثاوس على ممارستها: " فتقوَّ أنت يا ابني بالنعمة التي في المسيح يسوع، وما سمعته منّي بشهود كثيرين أودِعه أناسًا أمناء يكونون أكفّاءً أن يُعلِّموا آخرين أيضًا، فاشترك أنت في احتمال المشقّات كجندي صالح ليسوع المسيح. ليس أحد وهو يتجنّد يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنَّده، وأيضًا إن كان يجاهد لا يكلّل إن لم يجاهد قانونيًا." (2 تي 2: 1-5)

لاحظ بتدقيق كيف يتكلّم عن كِلا البابين. فالغالبيّة العُظمى تدخل من الباب الواسع، بينما قليلون هم الذين يكتشفون الباب الضيق. إننا لا نبحث عن الباب الواسع، ولا حاجة لنا مطلقًا أن نكتشفه، إذ هو يعرض نفسه علينا تلقائيًا. أمّا الباب الضيّق فلا يجده الكل، وحتى الذين يجدونه فليس جميعهم يدخلونه، إذ كثيرون بعد اكتشافهم باب الحق تجتذبهم ملاذ الدنيا ويرجعون من منتصف الطريق. ( القدّيس جيروم )

يقول العلاّمة أوريجينوس أن الطريق الرحب يحوي زوايا كثيرة، عندها يقف المراءون للصلاة كي يراهم الناس فينالون أجرتهم (مت 6: 5). وعلى العكس الطريق الكرب لا يحوي زوايا شوارع يقف عندها المؤمن، بل يسرع منطلقًا إلى الحياة الأبديّة خلال الباب الضيق. لا يجد المؤمن في الطريق ما يبهجه فيستقر عنده، لكنّه يتّجه نحو السيّد المسيح سرّ بهجته وحياته.

الباب الضيّق هو باب الملكوت الذي لن يدخله إلا رب الملكوت يسوع المسيح الذي بلا خطيّة وحده، والطريق الكرب ليس إلا صليبه الذي لا يمكن لأحد أن يعبر فيه سوى المصلوب. لهذا لن ننعم بالدخول من الباب الضيّق، ولا السير في الطريق الكرب، إلا باختفائنا في يسوع المسيح المصلوب وثبوتنا فيه. بهذا يتحوّل الكرب والضيق إلى بهجة اتّحاد مع المصلوب.

5. الأنبياء الكذبة

كما حذرنا السيّد المسيح من الحروب الخفيّة وحب الظهور التي تفسد نقاوة القلب، وتنزع بساطة العين الداخليّة، يحذّرنا أيضًا من الحروب الخارجيّة، خلال الأنبياء الكذبة والهراطقة وضد المسيح... هؤلاء الذين يحملون مسحة التقوى الخارجيّة، بينما قلوبهم ذئاب خاطفة. يقول السيد: "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب حملان، ولكنّهم من داخل ذئاب خاطفة" [15]. هكذا يحذّرنا السيّد من الأنبياء المخادعين الذين "يلبسون ثوب شعر لأجل الغش" (زك 13: 4). يتظاهرون بالحياة النسكيّة وشكليّات الورع لخداع الكثيرين، أو كما يقول الرسول: "مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيّرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح" (2 كو 11: 13-14)، وذلك كرئيسهم الوحش الذي يتظاهر بصورة السيّد المسيح الحمل، إذ له "قرنان شبه خروف" (رؤ 13: 11) وقد حذّرنا آباء الكنيسة كثيرًا من المخادعين. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من يصرخ بما هو لله بصوت التواضع الحقيقي والاعتراف الحق للإيمان فهو حمل، أمّا من ينطق بتجاديف ضدّ الحق وعداوة ضدّ الله فهو ذئب.] كما يقول القدّيس جيروم: [ما يُقال هنا عن الأنبياء الكذبة يفهم عن كل من ينطق بغير ما يسلك به عمليًا، لكنّه يخصّ بالأكثر الهراطقة الذين يظهرون لابسين العفّة وصوّامين كزيّ للتقوى، أمّا روحهم في الداخل فمملوءة سمًا، بهذا يخدعون البسطاء من الإخوة.]

يُعلن السيّد أن الأنبياء الكذبة واضحون، يمكن تمييزهم عن أولاد الله الحقيقيّين، بقوله: "من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبًا؟أو من الحسك تينًا؟هكذا كل شجرة جيّدة تصنع أثمارًا جيدًا، وأما الشجرة الرديّة فتصنع أثمارًا رديّة. لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديّة، ولا شجرة رديّة أن تصنع أثمارًا جيّدة. كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار، فإذًا من ثمارهم تعرفونهم" [16-20].

استخدم بعض الهراطقة هذه الكلمات الإلهيّة للادعاء بوجود طبيعتين متعارضتين فالبعض بطبعهم صالحون والآخرون أشرار، ولا يمكن للصالحين أن يصنعوا شرًا وللأشرار أن يصنعوا خيرًا، وكأن الإنسان مسيّرا لا يدّْ له في اختيار الطريق، إنّما طبيعته هي التي تملي عليه سلوكه. هذا الأمر يتنافى مع محبّة الله وتقديسه لحرّية الإرادة الإنسانيّة، كما يتنافى مع عدله إذ كيف يجازينا عن تصرفات ليس لنا حرّية السلوك بها أو الامتناع عنها؟

نقتطف هنا بعض كلمات القدّيس جيروم: [لنسأل هؤلاء الهراطقة الذين يؤكّدون وجود طبيعتين متعارضتين، إذ يفهمون كما لو أن الشجرة لا يمكن أن تأتي بثمر رديء (حتى إن انحرفت)، إذ كيف أمكن لموسى - الشجرة الصالحة - أن يخطئ عند ماء الخصومة؟ أو كيف أنكر بطرس الرب عند آلامه، قائلاً: لا أعرف الرجل؟ أو كيف أمكن لحمى موسى - الشجرة الرديئة - الذي لا يؤمن بإله إسرائيل أن يقدّم مشورة صالحة؟] هذا القول لا يحمل تعارضًا مع كلمات السيّد المسيح، فالشجرة الصالحة لا تثمر إلا ما هو صالح مادامت في يدّ الله مستمرّة في صلاحها، لكنها إن انحرفت ولو إلى حين وتحوّلت إلى شجرة شرّيرة تخطيء لتعود بالتوبة فتأتي بالثمر الصالح من جديد. وهكذا أيضًا بالنسبة للشجرة الرديّة فإنها تبقى تعطي ثمرًا رديًا حتى متى صارت صالحة بالقدّوس الصالح تقدّم ثمرًا صالحًا. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل أن الشجرة الرديّة لا يمكن أن تصير صالحة، وإنما قال لا تحمل ثمرًا جيدًا مادامت هي رديّة!]

إن كنّا شجرًا رديًا فقد جاء السيّد المسيح التفاحة الصالحة، الذي قيل عنه: "كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس وثمرته حُلوة في حلقي" (نش 2: 3). نتطعَّم فيه، فنصير أغصانًا صالحة، تأتي بثمر كثير. لهذا يقول: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5). إذ نثبت فيه نحمله داخلنا، كسرّ صلاحنا وبرّنا، وكما يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [لقد صار مطيعًا ذاك الذي أخذ ضعفاتنا وحمل أمراضنا، شافيًا عصيان البشر بطاعته. فبجراحاته يشفي جرحنا، وبموته يطرد الموت العام عن البشر.]

كنّا أشجارًا رديّة تحمل شوكًا وحسكًا، لا نقدر أن نثمر عنبًا أو تينًا، لكننا في المسيح يسوع ربّنا تحوّل شوكنا إلى كرم يثمر عنبًا جديدًا، وحسَكنا إلى شجرة تين جديدة. خارج المسيح تكون لنا طبيعة الأرض الساقطة تحت اللعنة فتنتج حسكًا وشوكًا (تك 3: 18)، هذه التي نخلعها في مياه المعموديّة لنحمل الطبيعة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع لنحمل فينا عنبًا وتينًا. بهذا نفهم كلمات السيد: "اجعلوا الشجرة جيّدة وثمرها جيدًا" (مت 12: 33).

وللقدّيس يوحنا الذهبي الفم تعليق جميل على العنب والتين، [يحوي العنب في داخل سرّ المسيح، فكما يحوي العنقود الكثير من الحبات مترابطة معًا خلال فرع العنقود الخشبي، هكذا للمسيح مؤمنون كثيرون يتّحدون معًا خلال خشبة الصليب. والتين يمثّل الكنيسة التي تضم داخله جموع المؤمنين في حضن المحبّة الحلو، وذلك كما تحوي التينة بذارًا كثيرة داخل غطائها الواحد. فالتينة تمثل المحبّة في حلاوتها والوحدة في اتّحاد البذار الكثيرة معًا. أمّا العنب فيقدّم لنا مثالاً للصبر، إذ يدخل المعصرة؛ كما يُشير إلى الفرح إذ تفرح الخمر قلب الإنسان؛ ويشير إلى الإخلاص حيث لا يمزج بماء؛ وإلى الحلاوة إذ هو شهي. أمّا الشوك والحسك فيشيران إلى الهراطقة إذ يحملون الأشواك من كل جانب. هكذا ترى خدّام الشيّاطين مملوئين بالمخاطر من كل ناحية. مثل هذا الشوك والحسك لا يقدّم للكنيسة ثمارًا.]

في اختصار أقول أننا في المسيح يسوع ربّنا نخلع أعمال الإنسان القديم من شوكٍ وحسكٍ، أي الأعمال الأرضيّة، لكي نحمل فينا العنب والتين الروحي. يصير كل منّا أشبه بحبة العنب التي ترتبط بإخوتها خلال الصليب (الفرع الخشبي) والتي يلزم أن تجتاز المعصرة وتحتمل الضيّق مع ذاك الذي قال: "قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). وليدرك كل واحد منّا - مهما بلغت مواهبه أو قدراته أو مركزه الروحي أو الاجتماعي أو رتبته الكنسيّة - أنه ليس إلا بذرة في التينة المقدّسة، لا قيمة لها في ذاتها خارج الجماعة المقدّسة، ولا عذوبة لها إلا بثبوتها في غلاف المحبّة الحلو الذي الحلو الذي يضم الجميع معًا بروح الاتفاق والسلام!

هذا هو ما يفرِّح قلب الله أن نصير له خمرًا روحيًا اجتاز المعصرة، وأن نسلك بروح الحب الكنسي الحق، وليس أن نحمل مجرّد شكليّات العبادة أو ألفاظ الإيمان النظري، لهذا يقول السيّد مؤكّدًا: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبّأنا؟ وباسمك أخرجنا شيّاطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟فحينئذ أصرِّح لهم أني لا أعرفكم قط. اذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم" [21-23].

يحدّثنا السيّد عن يوم مجيئه الأخير، حيث فيه يلتقي مع الأشرار لا كعريس مفرح بل كديّان مرهب، لا تشفع فيهم صلواتهم الطويلة الباطلة، ولا كرازتهم باسمه، ولا إخراجهم الشيّاطين وصنعهم قوات باسمه... فهو لا يعرفهم لأنهم فعلة إثم.

الله يعرف أولاده وخدّامه المقدّسين، ولا يعرف الأشرار فعلة الإثم، لهذا عندما سقط آدم في الخطيّة سأله: أين أنت؟ وكما يقول القدّيس جيروم: [كان الله يعرف أن آدم في الجنّة، ويعلم كل ما قد حدث، لكنّه إذ أخطأ آدم لم يعرفه الله، إذ قال له: أين أنت؟] كأنه لا يراه، لأن آدم اعتزل النور الإلهي والبرّ، فصار تحت ظلال الخطيّة وظلمة الموت.] يُعلّق القدّيس أغسطينوس على قول السيد: "لا أعرفكم" هكذا: [لا أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه.] فالله لا يرانا في نوره عندما نطيل الصلوات باطلاً أو نكرز باسمه أو نصنع قوّات وإنما حينما نحيا معه وبه ونسلك طريقه. وفيما يلي بعض تعليقات للآباء في ذلك:

+ إنهم يتعجّبون لأنهم يعاقبون مع أنهم صنعوا معجزات، أمّا أنت فلا تتعجّب لأن كل المواهب إنّما أُعطيت لهم كهبة مجّانيّة لم يساهموا فيها من جانبهم بشيء، لذا فهم يعاقبون بعدل، إذ هم جاحدون مَن أكرمهم... لنخف أيها الأحبّاء ولنهتم بحياتنا جدًا فلا نُحسب أشرارا لأننا لم نصنع معجزات الآن. لأن المعجزات لا تفيدنا في شيء وكما أن عدم صنعها لا يضرّنا، إنّما نهتم بكل فضيلة. القدّيس يوحنا الذهبي الفم

+ كتابة أسمائنا في السماء برهان على حياتنا الفاضلة، أمّا إخراج الشيّاطين فهو هبة من المخلّص، لذلك يقول للذين يفتخرون بعمل القوات دون ممارسة الحياة الفاضلة: "لا أعرفكم"، إذ لا يعرف الله طريق الأشرار.  القدّيس أثناسيوس الرسولي

+ + +



 Copy Rights© Reserved  for youth services in Nashville  2009

Designed By  Mina Bebawi